على مدى أشهر عدّة، كانت هذه المدينة الصغيرة الواقعة على بعد نحو خمسة كيلومترات من الحدود مع روسيا في شمال شرق أوكرانيا، مستهدفة. وتتعرّض لهجوم روسي منذ العاشر من أيار/مايو.
وهي اليوم عبارة عن أنقاض تغطي كيلومترات عدّة، بحسب ما كشفت صور التقطتها مسيّرات عسكرية أوكرانية نهاية أيار/مايو ومطلع أيلول/سبتمبر.
ويوضح جامباراشفيلي الذي ما يزال رسميا رئيس الإدارة المدنية من مكتبه المؤقت في مدينة خاركيف، على بعد 68 كيلومترا إلى الجنوب الغربي، “يواصل العدو قصفه المكثف، تمّ تدمير 90% من وسط المدينة”.
وانضمّ صحافيو وكالة فرانس برس في خاركيف وكييف وباريس إلى إئتلاف “بيلينغكات” المستقلّ للتحقيقات بالاعتماد على المصادر المفتوحة للمعلومات، والتي تجمع بين التقصّي الرقمي والمعطيات العامة، لإظهار كيف تمّ محو المدينة تقريبا من وجه الأرض، بناية بعد أخرى في بضعة أسابيع فقط.
على نحو أكثر دقة، تبيّن أن حوالى 60 بالمئة من فوفتشانسك كان مدمّرا تماما، وحوالى 18 بالمئة منها جزئيا حتى نهاية أيلول/سبتمبر 2024، وفق تحليل لائتلاف “بيلينغكات” لصور التقطت عبر الأقمار الاصطناعية.
وترتفع هذه النسب أكثر في وسط المدينة شمال نهر فوفتشا الذي يخترقها.
لم تعد هذه المدينة حيّة سوى في ذكريات الناجين من سكانها الذين كان عددهم قبل الحرب حوالى 20 ألفا، قبل أن ينزح الناجون إلى خاركيف حيث أجرت وكالة فرانس برس مقابلات معهم.
وتقول المسؤولة سابقا عن مكتبة البلدية نيليا سترياكوفا إن المدينة كانت تتضمّ “معهدا تقنيا وآخر طبيا، وسبع مدارس وعدد من دور الحضانة”، فضلا عن “مصانع زيت وزبدة ونجارة…”.
يضاف إلى تلك المنشآت مستشفى جهوي أعيد بناؤه في العام 2017 بحوالى عشرة ملايين يورو قدمتها وكالة التعاون الألماني، وكنيسة كانت تمتلئ عن آخرها في المناسبات.
لم تصمد فوفتشانسك طويلا أمام الغزو الروسي وسقطت سريعا بعد بدايته في 24 شباط/فبراير 2022، لكن القوات الأوكرانية نججت في استرجاعها في خريف العام نفسه.
ومنذ ذلك الوقت، تتعرّض لقصف متواصل من المدفعية الروسية.
وتصاعد هذه القصف إلى مستوى أكثر حدة منذ 10 أيار/مايو، حين فتحت القوات الروسية جبهة جديدة بهجومها على منطقة خاركيف، ثاني أكبر مدن البلاد، انطلاقا من الشمال على الحدود.
بعد أسابيع من القتال في منطقة كوبيانسك على بعد نحو مئة كيلومتر جنوبا، استعاد اللواء الأوكراني السابع والخمسون قواه للدفاع عن فوفتشانسك.
يتذكّر دينيس ياروسلافسكي، رئيس وحدة الاستطلاع في اللواء، “رصدنا حينها ناقلتي جند مدرعتين روسيتين عبرتا الحدود”.
وكانت موسكو أطلقت حينها واحدا من أعنف هجماتها منذ بداية الحرب، وحشدت له آلاف من الجنود، بحسب كييف.
في الجانب الأوكراني، اكتشف الملازم ياروسلافسكي (42 عاما) أنه “لم تكن هناك تحصينات ولا ألغام” لفرملة تقدم العدو.
ويضيف مستنكرا “فقد 17 ألف شخص منازلهم.. لأن لا أحد شيّد تحصينات” لصدّ الهجوم، مدينا “الإهمال والرشوة”.
في وسط المدينة، تركّز قتال عنيف حول مصنع “أغريغاتني زافود” لقطع الغيار الذي يعود بناؤه إلى الحقبة السوفياتية في العام 1970.
وألغى الرئيس فولوديمير زيلينسكي رحلة إلى الخارج ليقوم بزيارة طارئة إلى خاركيف في 16 أيار/مايو، واعترف بأن الجيش الروسي تقدّم بنحو 5 إلى 10 كيلومترات داخل المدينة.
كم عدد القتلى؟
لا يستطيع عمدة المدينة الإدلاء بتقديرات حول عدد الضحايا المدنيين، مكتفيا بالإشارة إلى أنهم بالعشرات، أو ربما أكثر.
وقد أصيب هو نفسه بشظية في ساقه عندما كان يشرف على عملية إجلاء مواطنيه.
وبقي حوالي أربعة آلاف شخص في فوفشانسك حتى 10 أيار/مايو، وفقا للمسؤول المحلي. وكان تمّ إجلاء معظم العائلات التي لديها أطفال قبل أشهر.
وفقدت كيرا جافاروفا (57 عاما) أي أمل في العثور على والدتها فالنتينا رايدونوفا، معبّرة عن اعتقادها بأنها قتلت منذ مدة.
وتتذكّر كيرا التي تدير عيادة في خاركيف، أن آخر مكالمة مع والدتها تعود إلى 17 أيار/مايو، وكانت فالنتينا تردّد “لن أذهب إلى أي مكان في سنّ ال85”.
وتؤكد صور الأقمار الاصطناعية التي جمعتها “بيلينغكات” وشهود أن المنزل الذي كانت تقطنه في دوخوفنا دُمّر بالكامل.
من سخرية القدر أن فالنتينا التي تحمل الجنسية الروسية اختارت في العام 2015 الانتقال للعيش في فوفتشانسك لتكون قريبة بمسافة متساوية من ولديها، كيرا، الطبيبة النفسية التي أصبحت أوكرانية بجواز السفر وبالانتماء، وتعيش في خاركيف منذ 35 عاما، وشقيقها الأكبر المعروف بتأييده للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي بقي في بلغورود، معقل العائلة وأول مدينة روسية كبيرة على الجانب الآخر من الحدود.
لم تعد كيرا تنطق باسم شقيقها الذي تسمّيه “الأخ السابق”، فيما لم تتمكن وكالة فرانس برس من التواصل معه.
واختفى فولوديمير زيموفسكي (70 عاما) منذ أن قرّر في 16 أيار/مايو الفرار في سيارة مع والدته وزوجته وأحد الجيران، قبل أن يقعوا في فخ نيران القوات الروسية.
وتعتقد زوجته رايسا أنه وحماتها “قتلا بالتأكيد على يد قناص روسي”، فيما تمكنت هي من الفرار من السيارة قبل أن يعتقلها جنود روس.
وبقيت أسيرة ليومين قبل أن تنجح في الفرار مجددا والاختباء في قبو أحد الجيران لليلة واحدة، ثم هربت عبر الغابة.
– دفن الموتى –
وتتذكّر المرأة الشقراء ذات العينين الزرقاوين رحلتها هذه بين الحياة والموت بصوت ناعم وهادئ. لم يعد يهمها اليوم سوى العثور على جثتي زوجها وحماتها لدفنهما بكرامة.
وانتشرت شائعات بين النازحين تقول إن الجثت التي كانت متناثرة في شوارع فوفتشانسك لأيام عدّة ألقيت في مقبرة جماعية، مقابل تعليق القتال. لكن لا أحد يستطيع اليوم التحقّق ممن فعل ذلك وأين.
لم يتبق سوى عدد قليل من المدنيين الذين ما يزالون يعيشون في فوفتشانك، لكن لا أحد يعرف عددهم.
قبل بدء الحرب في منطقة دونباس الشرقية عام 2014، كانت المبادلات التجارة الحدودية بين فوفشانسك وبلدات روسية، تتمّ بشكل يومي، وكان الروس يتجوّلون في أسواق المدينة.
وتقول ستراياكوفا إن أكثر من نصف الأسر في شرق أوكرانيا لديها أقارب روس. “هناك الكثير من العائلات المختلطة (…) لكننا الآن صرنا أعداء”.
© 2024 AFP